الكشرة الفيزيائية

قديما، كان كثير من أساتذة الفيزياء والعلوم بشكل عام، يضعون على وجوههم مظهرا متجهما، يعطي انطباعا بالجدية والهيبة والوقار، وكان له أثر كبير في نفوس طلبتهم يجعلهم يأخذون كل ما يتعلمونه منهم بجدية مطلقة. وبالتدريج، يصبح الطالب أو الطالبة، وخاصة اولئك الذين يدرسون هذا العلم برغبة وشغف، مأخوذا بشخصية أستاذه ويبدأ باستقاء السلوكات الشخصية التي لا علاقة لها بالعلم الذي يدرسه. وترى هذا الطالب او الطالبة وقد أصبح استاذا يسلك نفس النهج ويكشر في وجوه طلبته ويشعرهم أن ثمن التعامل معه والتعلم منه هو إلقاء كل صفة او شعور بالمرح او روح النكتة خارج الصف، او خارج مكتب الاستاذ ان كنت قد جئت للحديث معه أو سؤاله عن امر ما.

ولعلي أضرب مثلا أورده فيرنر هايزنبرغ في كتابه “الجزء والكل” (صفحة 33) حول انطباعه الأول وهو طالب عن أستاذ الرياضيات ليندمان الذي ذهب الى مكتبه يستأذنه أن يدرس معه. يقول هايزنبرغ:

“‏كنت ‏أود استئذان لينديمان ‏في الانضمام إلى حلقته العلمية التي اعتقدت أنني قد أعددت لها من خلال قراءاتي الرياضية بجانب دراستي المدرسية.

‏وهكذا فقد ذهبت لزيارة لينديمان في الدور الأول بمبنى الجامعة حيث كان ‏يعمل هناك في الإدارة الخاصة ‏بشؤون الطلبة. ‏دخلت إلى حجرته المظلمة ذات الطراز العتيق الذي أثار للوهلة الأولى لدي الشعور بالانقباض. وقبل أن ابدأ الحديث معه لاحظت أن كلباً صغيراً أسود يجلس فوق منضدة صغيرة مجاورة لمكتبه فتذكرت على التو الكلب الذي كان موجودا في حجرة دراسة فاوست. ‏نظر الكلب إلي ‏بامتعاض شديد ‏لم أعهده من قبل. ‏ربما اعتبرني من أولئك المتطفلين الذين لا يرغبون إلا في إثارة القلق لسيده العجوز. ‏بعد فترة وجيزة من الارتباك، بدأت في تقديم طلبي للأستاذ شيئاً فشيئاً، ‏ثم لاحظت كيف أن رغبتي كانت غير متوازنة، ولعل ليندمان – الرجل ‏ذو اللحية البيضاء الذي بدا عليه الإرهاق الشديد – ‏قد لاحظ عدم توازني هذا فانتابه قليل من الغضب. ‏وربما كان ذلك أيضا هو السبب في أن انطلق الكلب ينبح بطريقة مزعجة. لقد حاول سيده أن يهدئ من روعه، لكنه بدلا من ذلك ساهم في تصعيد غضبه، الذي ظل يعلو حتى صار الحديث غير ممكن. ‏وهنا سألني لينديمان ‏عن الكتب التي قرأتها في الآونة الأخيرة فذكرت له كتاب هيرمان فايل “الحيز- الزمان – المادة”. وتحت ضغط التصرف الشاذ لكلب حراسته الاسود أنهى لينديمان ‏الحديث فجأة بقوله “‏بهذا فإنك تعتبر على أي حال فاسدا بالنسبة لدراسة الرياضيات!” ‏بهذه النتيجة خرجت من حجرته ولم يعد بعدها ممكنا لي الاستمرار في دراسة الرياضيات”.

وربما كانت تجربتي الشخصية مع أساتذتي في قسم الفيزياء تحمل شيئا من هذا المضمون. وإن لم يكن بها كلب يحدق في بعداء، لكن تعاملهم مع الطلبة في اواسط الثمانينات كان يتسم بقدر كبير من الرسمية والجدية، التي كانت تتناقص شيئا فشيئا كلما اقتربنا من التخرج. لكنني حينما بدأت دراسة الماجستير، حيث بدأنا كمساعدي تدريس نحتك أكثر بأساتذتنا، حينها اكتشفت انهم طيبون ومهذبون ومنفتحون في تعاملهم، بل إن بعضهم كان مرحا ودودا بشكل لم أتخيله خلال سنوات الدراسة الأولى. ولا زلت اذكر ذلك اليوم حين كنا نراقب على أحد الامتحانات حين اقترب مني الدكتور معروف، (أطال الله في عمره) ووضع في يدي حبة ملبس وقال لي هامسا حلي فمك. وقفت مندهشا مسرورا جدا، ورغم انه كان من الاساتذة النادرين اصحاب الابتسامة والبشاشة والنكتة مع الجميع طلبة وزملاء، فقد شعرت حينها بتقدير وحب عميق له أكثر من أي وقت مضى.

فهل هذه يا ترى صفة ملازمة للفيزيائيين، أو لأهل العلوم والرياضيات فقط، ام انها صفة تلازم جميع المعلمين من كل التخصصات؟
أود أن أترك التعليق والمشاركة لكم، وأرجو ان لا يؤخذ رأيي حكما على معلمي العلوم والرياضيات، بل هي ملاحظة أرجو ألا تكون عامة في الوطن العربي.

د. محمد عوض الله

2 thoughts on “الكشرة الفيزيائية

  • January 13, 2021 at 4:43 am
    Permalink

    قرأت ذات مرة عن استبيان لآراء طلبة جامعات امريكية حول ما يهتم به الطلبة تجاه معلميهم، وكانت قائمة من تلك الاختيارات، لكن ما وقف على رأس تلك القائمة هو صفة “المرح” التي يتحلى بها المعلم/الأستاذ الجامعي. ولا عجب! فالمرء يحتاج لما يريح النفس والقلب ليكون مسلكا للعقل والتفاعل والدافعية للعمل.
    وما ذكر في المقالة هنا صحيح لكن الأمر صار أكثر انفتاحا مؤخرا، فقد تغير الأمر كثيرا في وسائل الخطاب مع تغير للمفاهيم وتنوع صور التكنولوجيا أبضا، وما ظهر من ألوان وفنون ودورات وإعلام ساهم في “نفض المشهد” ..أخفق في مرات ونجح في مرات أكثر ..لكن التغيير حصل ويحصل.

    Reply
  • February 14, 2021 at 3:30 am
    Permalink

    شكرا لك أخت بسمة،
    فهل ما يحسنه المعلم الأمريكي أو الأوروبي يصعب على المعلم العربي؟
    أم أن كثيرا من معلمينا يتميزون بخفة الدم وحلاوة الأسلوب، ما يقربهم من قلوب طلبتهم..

    أم ربما كان الأمر عندنا متعلقا أكثر بالهيبة والضبط في الصف؟

    Reply

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *