مقاومة التعلم

أحيانا يجد المرء نفسه في وضع لا يريد معه سماع شيء ولا مشاهدة شيء. يريد فقط قليلا من الهدوء وأن يخلو لنفسه ليخرج من ضوضاء الحياة وكثرة الضغوط والهموم… الخ. وهذا مفهوم تماما لشخص فوق الأربعين او ربما في الثلاثينات وحتى نهاية العشرينات. لكن هذا أمر يصعب فهمه لشاب او فتاة في الثالثة عشرة او ربما أصغر من ذلك عندما تجده يهرب من “سيرة الدراسة” أو تجدها تختلق الأعذار وتبدأ في المماطلة والتأجيل قبل عمل واجب مدرسي أو التحضير لامتحان.

لكن هذا الشاب او الفتاة لا يكاد يترك الهاتف من يده وهو يتجول “بشغف” بين الانستغرام والسناب والفيس الى غير ذلك من التطبيقات التي قد نعرفها وقد لا نعرفها. ويمر وقت طويل أو بالأصح يهدر وقت طويل على هذه البرامج والتطبيقات دون ان يشعرك هؤلاء الفتيان بالملل، بينما تبرز الممانعة فورا في النظرة والسلوك إذا ما حضر وقت “الدراسة”. هذه الممانعة ربما يجوز لنا أن نسميها مقاومة أو “ممانعة الدراسة”، ولكن هل يمكننا تسميتها “ممانعة التعلم”؟ 

إذا ما بحثنا في المحتوى التعليمي للمناهج المدرسية أو حتى الجامعية، وقارنا ذلك بالمحتوى التعليمي لتطبيقات التواصل الاجتماعي، لوجدنا قطعا أن في كليهما ما يمكن أن نسميه محتوى تعليميا. ولا شك أن تطبيقات التواصل الاجتماعي إنما تعلم الفتيان وحتى الراشدين الكثير من المعارف وتضع بين أيديهم بحرا واسعا لا نهاية له من الأخبار والمشاركات التي تحقن فيهم الأفكار والمشاعر والسلوكات والرغبات، وفضلا عن ذلك تتيح لهم التفاعل والمشاركة في صنع محتوى يصبونه في هذا البحر ليشاركه غيرهم فتتلاطم الأمواج في هذا البحر الهائل وتأتيك بكل ما يمكن ان تتصوره او لا تتصوره.

ولكن كل هذا إنما يتم بعشوائية وانفلات تام بلا رقيب ولا حسيب ولا يعرف الاب ماذا “يتعلم” اولاده وهم يمسكون بالهاتف او ما يتسرب الى عقولهم ونفوسهم وشخصياتهم ولاحقا سلوكهم ومسارهم في الحياة.

حسنا، لم يكن الهدف من كل ما سبق مهاجمة تطبيقات التواصل وما شاكلها، رغم التحفظ الكبير على كل ما تمثله من خطر على الأجيال. لكن الهدف هو طرح السؤال التالي: كيف نقلل من ممانعة طلبتنا للتعلم من المنهاج المدرسي؟ وهذا يتطلب منا ان نقر مقدما ان أولادنا لا يمانعون ولا يقاومون التعلم، بل ربما يمانعون ويقاومون الأسلوب والمحتوى، أمام الأسلوب، بل الأساليب، الأكثر تشويقا وإمتاعا والمحتوى شديد التنوع التي يقدمها البحر الافتراضي الغني جدا بكل ما يشتهون ويرغبون.

لعل من الظلم أن تعقد مقارنة بين المحتوى والمنهاج المدرسي وبين محتوى الشبكة الافتراضية. بكل ما يحوي الاول من تخطيط وتنظيم واهداف مدروسة تقدم ما يلزم لبناء شخصية وعقل وفكر الطلبة بما ينفعهم ويفيدهم في مسار الحياة، وبهيكله التسلسلي ومواكبته مراحل نمو ووعي الطالب، ومراعاته لخصوصية ثقافته ولتنشئته ليكون عضوا صالحا بناء في مجتمعه حيث يتوقع أن يتسلم في القريب مسؤولية ادارة شؤون هذا المجتمع، بكل ما يتضمنه ذلك من قدرات وكفاءات ومهارات وقيم لا بد من بنائها فيه بشكل صحيح ومتين ومخلص.

لكننا في ظل “عالمية التواصل”، وهذا غير العولمة، حيث أن كل المحتوى “العالمي” من شرقه الى غربه، وبجميع لغاته يمكن أن يصبح في متناول ابنائنا بلغته أو مترجما، بمجرد لمسة على الشاشة. في ظل هذه العالمية، يصبح حال الصف المدرسي أشبه بحلقة تدريس تعقد في الهواء الطلق وسط سوق شعبي كبير، يموج بكل انواع المعروضات والباعة والمتسوقين، ثم يطلب من المعلم أن يحافظ على تركيز وانجذاب تلاميذه لما يقدمه لهم، بل وعلى مستوى من التعلم يظهر في نتائج اختباراتهم في نهاية الأمر. بالله عليكم، هل رأيتم عبئا وحملا أثقل من هذا على عاتق إنسان؟

لذا، والحالة هذه، ما هي الوسائل والمقترحات والحلول “الواقعية” التي يمكننا التفكير بها للتقليل من “مقاومة المنهاج” هذه، وهل هناك أمل لكسب هذا التنافس مع تطبيقات التواصل؟ وإن كان الكسب بعيد المنال، فعلى الأقل هل يمكننا جعلها “خسارة مشرفة”؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *